فصل: تفسير الآية رقم (11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بإيمانهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ‏}‏‏.‏

لا خلاف في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمت أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية‏.‏

ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجاً لمشركة وتكون المسلمة زوجاً لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها‏.‏

وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ستّ مَجيء أبي جندل بن سهيل بن عَمرو يَرسُف في الحديد وكان مسلماً وكان موثقاً في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح «أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه» فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرتْ أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط هاربة من زوجها عَمرو بن العاص، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي، وجاءت أُميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشِّمْراخ وقيل‏:‏ حسان بن الدحداحة‏.‏ وطَلَبهُن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال‏:‏ إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تَجف بعدُ، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أمَّ كلثوم بنت عقبة زيدُ بن حارثة‏.‏ وتزوج سُبيعة عمر رضي الله عنه وتزوج أميمة سهلُ بن حنيف‏.‏

وجاءت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بعد سنين مشركاً ثم أسلم في المدينة فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه‏.‏

وقد اختلف‏:‏ هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخاً لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح فيه بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملاً وكان النهيُ الذي في هذه الآية بياناً لذلك المجمل‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وليّه من رجل أو امرأة يُرد إلى وليه‏.‏

فإذا صحّ ذلك كان صريحاً وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم

والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملاً لإِرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير‏.‏

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصّلح‏:‏ إنما الشرط في الرجال لا في النساء فكانت هذه الآية تشريعاً للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذاناً للمشركين بأن شرطهم غير نص، وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجاً وتأييداً لرسول صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطّلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاوناً على إظهار الحق، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم‏.‏

والامتحان‏:‏ الاختِبار‏.‏ والمراد اختبار إيمانهن‏.‏

وجملة ‏{‏الله أعلم بإيمانهن‏}‏ معترضة، أي أن الله يعلم سرائرهنّ ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل‏.‏

ولذلك فرع على ما قبل الاعتراض قوله‏:‏ ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات‏}‏ الخ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن‏.‏ وهذا الالتحاق هو الذي سُمي المبايعة في قوله في الآية الآتية‏:‏ ‏{‏يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة‏:‏ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله‏:‏ ‏{‏يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غفور رحيم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 12‏]‏ وزاد ابن عباس فقال‏:‏ كانت الممتحنة أن تستحْلف أنها ما خرجت بغضاً لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقاً لرجل منّا، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولّي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية‏.‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏‏.‏

وموقع قوله‏:‏ ‏{‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله‏:‏ ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ تحقيقاً لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر‏.‏

وإذ قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات‏}‏ إلى آخره، تعين أن يقوم بتنفيذه من إليه تنفيذ أمُور المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به من مثل هذه الأمور العامة إلاّ على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور‏.‏

وإذ قد كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه في كلام الشارع منصرفاً إلى معنى الإِباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم‏.‏

ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خِطابات التكليف بأمور الإِسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلّق به مقصد الشريعة، ولذلك تعدّ المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة‏:‏ خطاب الكفار بالفروع، مسألةً لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بَله التفريع عليها‏.‏

وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا هن حل لهم‏}‏‏.‏ ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإِتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما‏.‏ وذلك أن نقول‏:‏ إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الزوج الكافر يقع على صورتين‏:‏

إحداهما‏:‏ أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر، وذلك هو ما ألح الكفار في طلبه لمّا جاءت بعض المؤمنات مهاجرات‏.‏

والثانية‏:‏ أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإِسلام بأن يخلى بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإِسلام إذا جاء يطلبها ومُنع من تسلمها‏.‏ وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة ‏{‏لا هن حل لهم‏}‏ إذ جعل فيها وصف حل خبراً عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال، وهي لام تعدية الحلّ وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال، أي لم يحللهن الإِسلام لهم‏.‏

وقدم ‏{‏لا هن حل لهم‏}‏ لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يَسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا‏.‏

وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي ‏{‏حل‏}‏ المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهم حلّ لهم‏.‏

وعبّر عن الثانية بجملة ‏{‏ولا هم يحلون لهن‏}‏ فعُكس الإِخبار بالحل إذ جعل خبراً عن ضمير الرجال، وعدي الفعل إلى المحلَّل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهم لا يحلّ لهن أزواجهن الكافرون ولو بقي الزوج في بلاد الإِسلام‏.‏

ولهذا ذكرت الجملة الثانية ‏{‏ولا هم يحلون لهن‏}‏ كالتتمة لحكم الجملة الأولى، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لإِفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإِسلام خلافاً لأبي حنيفة إذ قال‏:‏ إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين‏.‏

ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال‏:‏ ‏{‏لا هن حل لهم‏}‏ وهو الأصل كما علمت آنفاً أكد بجملة ‏{‏ولا هم يحلون لهن‏}‏ أي أن انتفاء الحلّ حاصل من كل جهة كما يقال‏:‏ لست منك ولست مني‏.‏

ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏ تأكيداً لشدة التلبس والاتصال من كل جهة‏.‏

وفي الكلام محسّن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين حل‏}‏ و‏{‏يحلون‏}‏ اقتضاه المقام، وإنّما يُوفر حظّ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة‏.‏

‏{‏لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ‏}‏‏.‏

المراد ب ‏{‏ما أنفقوا‏}‏ ما أعْطَوه من المهور، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء أسلمن من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات‏.‏ فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم‏.‏

وقد سمّى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجوراً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن‏.‏

والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة‏.‏

أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ‏}‏‏.‏

وإنما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ للتنبيه على خصوص قوله‏:‏ ‏{‏إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء‏.‏

‏{‏أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ‏}‏‏.‏

نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة، فطلق عمرُ امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين، وهما‏:‏ قُرَيبة بنت أبي أمية، وأمّ كلثوم بنت عمرو الخزاعية‏.‏

والمراد بالكوافر‏:‏ المشركات‏.‏ وهنّ موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يُؤخذ حكم ذلك بالقياس‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال‏:‏ سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ أنه في الرجال والنسوان، فقلت له‏:‏ النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة، فقال‏:‏ وآيْش يمنع من هذا، أليس الناس يقولون‏:‏ طائفَة كافرة، وفرقة كافرة، فبُهتُّ وقلتُ‏:‏ هذا تأييد اه‏.‏

وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا‏}‏ فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم‏.‏ ومن العجيب قول أبي علي‏:‏ فبهتُ وقلتُ‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولا تمسكوا‏}‏ بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة‏.‏ وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مُضارع مَسك بمعنى أمسك‏.‏

‏{‏الكوافر وَاسْھَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْھَلُواْ مَآ‏}‏‏.‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وآتوهم ما أنفقوا‏}‏ وهو تتميم لحكمه، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررْنَ منهم مسلماتتٍ، فكذلك إذا فرت إليهم امرأةُ مسلم كافرة ولا قدرة لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاعَ مهرها إلى زوجها المسلممِ الذي فرّت منه وهذا إنصاف بين الفريقين، والأمرُ للإِباحة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ تكملة لقوله‏:‏ ‏{‏واسألوا ما أنفقتم‏}‏ لإِفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله‏:‏ ‏{‏وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ لو أريد حكمهُ بمفرده لكان مغنياً عنه قوله‏:‏ ‏{‏وآتوهم ما أنفقوا‏}‏، فلما كُرر عَقب قوله‏:‏ ‏{‏واسألوا ما أنفقتم‏}‏ علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا‏.‏ فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة‏.‏ وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية‏.‏ قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو‏:‏ «اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية‏.‏ وقد زَل الفريقان» اه‏.‏ وقد أشار إليه في «مغني اللبيب» ولم يرده‏.‏ وقال المازري في «شرح البرهان»‏:‏ «وأما قولهم‏:‏ لا تأكل السمك وتشرب اللبن»، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإِعراب مختلفاً فإذا قال‏:‏ وتشربَ اللبن بفتح الباء كان نهياً عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف ‏(‏أَنْ‏)‏ اه‏.‏ وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة‏.‏

فأفاد قوله‏:‏ ‏{‏وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرّون إليهم كان ذلك مخوِّلاً للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فرّوا من أزواجهم إلى المسلمين، كما يقال في الفقه‏:‏ خيرتهُ تنفي ضررَه‏.‏

‏{‏أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

أي هذا حكم الله، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر‏.‏ قال الزُهري‏:‏ لولا العهد لأمسك النساء ولم يُردّ إلى أزواجهم صداق‏.‏ وجملة ‏{‏يحكم بينكم‏}‏ يجوز كونها حالاً من اسم الجلالة أو حالاً من ‏{‏حكم الله‏}‏ مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره‏:‏ يحكمه بينكم، وأن تكون استئنافاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله عليم حكيم‏}‏ تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقّه‏.‏

وقد كانت هذه الأحكام التي في هذه الآيات من الترادّ في المهور شرعاً في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإِسلام خاصّاً بذلك الزمان بإجماع أهل العلم، قاله ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏واسألوا ما أنفقتم‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ فإنها لما ترتب على نزولها إِباء المشركين من أن يردّوا إلى أزواج النساء اللاءِ بقين على الكفر بمكة واللاء فَرَرْنَ من المدينة والتحَقْنَ بأهل الكفر بمكة مهورَهم التي كانوا أَعطوها نساءهم، عقبت بهذه الآية لتشريع ردّ تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم‏.‏

روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من الترادِّ بين الفريقين في قوله تعال‏:‏ ‏{‏واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار‏}‏ الآية‏.‏

وأصل الفوت‏:‏ المفارقة والمباعدة، والتفاوت‏:‏ المتباعد‏.‏ والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رُويشد بن كثير الطائي أو عَمرو بن معد يكرب‏:‏

إن تُذنبوا ثم تأتِيني بقيتكم *** فمَا عَليَّ بذنب منكمُ فَوْت

أي فلا ضياع عليّ بما أذنبتم، أي فإنا كمن لم يضعْ له حق‏.‏

والمعنى‏:‏ إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقَّبتم على أزواج الكفار وعقَّب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته، أي ما هو حقه، واحجزوا ذلك عن الكفار‏.‏ وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور مَن فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار‏.‏ هذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية‏.‏

وعن ابن عباس والجمهور‏:‏ الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين‏.‏ وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة ‏[‏‏[‏براءة‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله‏}‏

والوجه أن لا يُصار إلى الإِعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء من مهور نساء المشركين اللاءِ أتيْنَ إلى بلاد الإِسلام وصرن أزواجاً للمسلمين‏.‏

والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى‏:‏ وإن فاتكم شيء من أزواجكم‏}‏‏.‏

ولفظ ‏{‏شيء‏}‏ هنا مراد به‏:‏ بعض ‏{‏من أزواجكم‏}‏ بيان ل ‏{‏شيء‏}‏، وأريد ب ‏{‏شيء‏}‏ تحقير الزوجات اللاءِ أبَيْن الإِسلام، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها‏.‏

وضمّن فعل ‏{‏فاتكم‏}‏ معنى الفرار فعدّي بحرف ‏{‏إلى‏}‏ أي فررن إلى الكفار‏.‏

و«عاقبتم» صيغة تفاعل من العُقْبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيرُه‏.‏ وأصلها في ركوب الرواحل والدوابّ أن يركب أحد عُقْبَة وآخر عَقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهورَ نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه‏.‏

ففعل ‏{‏ذهبت‏}‏ مجاز مثل فعل ‏{‏فاتكم‏}‏ في معنى عدم القدرة عليهن‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏وإن فاتكم شيء من أزواجكم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فآتوا‏}‏ خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضاً من المؤمنين‏.‏

والمعنى‏:‏ فليعْط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم‏.‏

والذي يتولى الإِعطاء هنا هو كما قررنا في قوله‏:‏ ‏{‏آتوهم ما أنفقوا‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏ أي يُدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة‏:‏ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وعياض بن أبي شداد الفهري، وشماس بن عثمان، وهشام بن العاص، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم‏.‏

وأفاد لفظ ‏{‏مثل‏}‏ أن يكون المهرُ المعطى مساوِياً لما كان أعطاه زوج المرأة من قبلُ لا نقص فيه‏.‏

وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمْن وهن ثمان نساء‏:‏ أمّ الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال‏:‏ قُريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عُمر بن الخطاب، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عُمَر، وبَروع ‏(‏بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها‏)‏ بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشَهبة بنت غيلان وعبدةُ بنتُ عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وقيل تحت عَمرو بن عبد وهندٌ بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله‏.‏

وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قُريبَة وأمَّ جرول، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر‏.‏ وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والتذييل بقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏ تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدّهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإِخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف ‏{‏الذي أنتم به مؤمنون‏}‏ لأن الإِيمان يبعث على التقوى والمشركون لمّا لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإِنصاف، أي فلا تكونوا مثلهم‏.‏

والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذه تكملة لامتحان النساء المتقدم ذكره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن‏}‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وبيان لتفصيل آثاره‏.‏ فكأنه يقول‏:‏ فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهنّ إلى الكفار وبَينُوا لهن شرائع الإِسلام‏.‏ وآية الامتحان عقب صلح الحديبية في شأن من هاجرن من مكة إلى المدينة بعد الصلح وهن‏:‏ أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وسبيعة الأسلمية، وأميمة بنت بشر، وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا صحة للأخبار التي تقول‏:‏ إن الآية نزلت في فتح مكة ومنشؤها التخليط في الحوادث واشتباه المكرر بالآنف‏.‏

روى البخاري ومسلم عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية ‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏غفور رحيم‏}‏ فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله‏:‏ قد بايعتُككِ‏.‏

والمقتضى لهذه البيعة بعد الإِمتحان أنهن دخلن في الإِسلام بعد أن استقرت أحكام الدين في مدة سنين لم يشهدن فيها ما شهده الرجال من اتساع التشريع آنا فآنا، ولهذا ابتدئت هذه البيعة بالنساء المهاجرات كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاءك المؤمنات‏}‏، أي قدمن عليك من مكة فهي على وزان قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 10‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ كانت هذه البيعة ثاني يوم الفتح على جبل الصفا‏.‏

وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على نساء الأنصار أيضاً‏.‏ روى البخاري عن أم عطية قالت‏:‏ بايَعَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا ‏{‏أن لا يشركن بالله شيئاً‏}‏ الحديث‏.‏

وفيه عن ابن عباس قال‏:‏ شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبيء الله فكأني أنظر إليه حين يجلِّس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن‏}‏ حتى فرغ من الآية كلها‏.‏ ثم قال حين فرغ‏:‏ أنتُنّ على ذلك فقالت امرأة منهنّ واحدة لم يجبه غيرها‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ «فتصدقن»‏.‏

وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضاً‏.‏ ففي «صحيح البخاري» عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تزنوا ولا تسرقوا، وقرأ آية النساء ‏(‏أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة‏)‏ فمن وفَى منكم فأجره على الله‏.‏ ومن أصاب من ذلك شَيئاً فعوقب به فهو كفارة له‏.‏ ومن أصاب منها شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له»‏.‏

واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالاً ونساء فجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء على ذلك، وممن بايعته من النساء يومئذٍ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وكبشة بنت رافع‏.‏

وجملة ‏{‏يبايعنك‏}‏ يجوز أن تكون حالاً من ‏{‏المؤمنات‏}‏ على معنى‏:‏ يُردن المبايعة وهي المذكورة في هذه الآية‏.‏ وجواب ‏{‏إذا‏}‏ ‏{‏فبايعهن‏}‏‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏يبايعنك‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏‏.‏

ومعنى ‏{‏إذا جاءك المؤمنات‏}‏، أي الداخلات في جماعة المؤمنين على الجملة والإِجمال، لا يعلمن أصولَ الإِسلام وبيّنه بقوله‏:‏ ‏{‏يبايعنك‏}‏ فهو خبر مراد به الأمر، أي فليبايعنك وتكون جملة ‏{‏فبايعهن‏}‏ تفريعاً لجملة ‏{‏يبايعنك‏}‏ وليبنى عليها قوله‏:‏ ‏{‏واستغفر لهن الله‏}‏‏.‏

وقد شملت الآية التخلي عن خصال في الجاهلية وكانت السرقة فيهن أكثر منها في الرجال‏.‏ قال الأعرابي لما وَلدت زوجهُ بنتاً‏:‏ والله ما هي بِنعْمَ الولدُ بَزّها بكاء ونَصرُها سرقة‏.‏

والمراد بقتل الأولاد أمران‏:‏ أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإِجهاض‏.‏

وأسند القتل إلى النساء وإن كان بعضه يفعله الرجال لأن النساء كنّ يرضين به أو يَسكتن عليه‏.‏

والبهتان‏:‏ الخبر المكذوب الذي لا شبهة لكاذبه فيه لأنه يبهت من ينقل عنه‏.‏

والافتراء‏:‏ اختلاق الكذب، أي لا يختلقن أخباراً بأشياء لم تقع‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ يتعلق ب ‏{‏يأتين‏}‏، وهذا من الكلام الجامع لمعان كثيرة باختلاف محامله من حقيقة ومجاز وكناية، فالبهتان حقيقته‏:‏ الإِخبار بالكذب وهو مصدر‏.‏ ويطلق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق‏.‏

وحقيقة بين الأيدي والأرجل‏:‏ أن يكون الكذب حاصلاً في مكان يتوسط الأيدي والأرجل فإن كان البهتان على حقيقته وهو الخبر الكاذب كان افتراؤه بين أيديهن وأرجلهن أنه كَذب مواجهةً في وجه المكذوب عليه كقولها‏:‏ يا فلانة زنيت مع فلان، أو سرقتتِ حلي فلانة‏.‏ لتبهتها في ملأٍ من الناس، أو أنت بنت زِنا، أو نحو ذلك‏.‏

وإن كان البهتان بمعنى المكذوب كان معنى افترائه بين أيديهن وأرجلهن كناية عن ادعاء الحمل بأن تشرب ما ينفخ بطنها فتوهم زوجها أنها حامل ثم تظهر الطلق وتأتي بولد تلتقطه وتنسبه إلى زوجها لئلا يطلقها، أو لئلا يرثه عصبته، فهي تعظم بطنها وهو بين يديها، ثم إذا وصل إبان إظهار الطلق وضعت الطفل بين رجليها وتحدثتْ وتحدث الناس بذلك فهو مبهوت عليه‏.‏ فالافتراء هو ادعاؤها ذلك تأكيداً لمعنى البهتان‏.‏

وإن كان البهتان مستعاراً للباطل الشبيه بالخبرِ البهتاننِ، كان ‏{‏بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ محتملاً للكناية عن تمكين المرأة نفسها من غير زوجها يقبلها أو يحبسها، فذلك بين يديها أو يزني بها، وذلك بين أرجلها‏.‏

وفسره أبو مسلم الأصفهاني بالسحر إذ تعالج أموره بيديها، وهي جالسة تضع أشياء السحر بين رجليها‏.‏

ولا يمنع من هذه المحامل أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال بمثلها‏.‏ وبعض هذه المحامل لا يتصور في الرجال إذ يؤخذ لكل صنف ما يصلح له منها‏.‏

وبعد تخصيص هذه المنهيات بالذكر لخطر شأنها عمم النهي بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ والمعروف هو ما لا تنكره النفوس‏.‏ والمراد هنا المعروف في الدين، فالتقييد به إما لمجرد الكشف فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف، وإما لقصد التوسعة عليهن في أمر لا يتعلق بالدين كما فعلتْ بريرة إذْ لم تقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إرجاعها زوجَها مُغيثاً إذ بانت منه بسبب عتقها وهو رقيق‏.‏

وقد روي في «الصحيح» عن أمّ عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهنّ في هذه المبايعة عن النياحة فقبضت امرأةٌ يدها وقالت‏:‏ أسعدَتْني فلانةُ أريد أن أَجزِيها‏.‏ فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقتْ ورجعت فبايَعها‏.‏ وإنما هذا مثال لبعض المعروف الذي يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم تركه فاش فيهن‏.‏

وورد في أَخبار أنه نهاهن عن تَبرج الجاهلية وعن أن يُحدثن الرجال الذين ليسوا بمحرم فقال عبد الرحمان بن عوف‏:‏ يا نبيء الله إن لنا أضيافاً وإنا نغيب، قال رسول الله‏:‏ ليس أولئك عنيتُ‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ نهاهنّ عن تمزيق الثياب وخدش الوجوه وتقطيع الشعور والدعاء بالويل والثبور، أي من شؤون النياحة في الجاهلية‏.‏

وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس لمَّا أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء كانت هندٌ بنتُ عتبةَ زوجُ أبي سفيان جالسة مع النساء متنكرة خوفاً من رسول الله أن يقتصَّ منها على شَقها بطن حمزة وإخراجِها كبدَه يوم أُحد‏.‏ فلما قال‏:‏ ‏{‏على أن لا يشركن بالله شيئاً‏}‏، قالت هند‏:‏ وكيف نَطمع أَن يَقبل منا شيئاً لم يقبله من الرجال‏.‏ فلما قال‏:‏ ‏{‏ولا يسرقن‏}‏‏.‏ قالت هند‏:‏ والله إِني لأُصيب من مَاللِ أبي سفيان هَنات فما أدري أتحل لي أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ أبو سفيان‏:‏ ما أصبتتِ من شيء فيما مضى وفيما غَبَر فهو لككِ حلال‏.‏ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَرَفها فدعاها فأتته فعاذت به، وقالت‏:‏ فاعفُ عما سلف يا نبيء الله عفا الله عنك‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏ولا يَزْنِينَ‏}‏‏.‏ فقالت‏:‏ أَوَ تزني الحُرّة‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏ولا يقتلن أولادهن‏}‏‏.‏ فقالت هند‏:‏ ربيْناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم‏.‏ تريد أن المسلمين قتلوا ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر‏.‏ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه‏}‏‏.‏ فقالت‏:‏ والله إن البهتان لأمرٌ قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏‏.‏

فقالت‏:‏ والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيَك في شيء‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ جامع لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به مما يرجع إلى واجبات الإِسلام‏.‏ وفي الحديث عن أم عطية قالت‏:‏ كان من ذلك‏:‏ أن لا ننوح‏.‏ قالت‏:‏ فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بدّ أن أَسعدهم‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ آل فلان، وهذه رخصة خاصة بأم عطية وبمن سَمَّتهم‏.‏ وفي يوم معيّن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فبايعهن‏}‏ جواب ‏{‏إذا‏}‏ تفريع على ‏{‏يبايعنك‏}‏، أي فأقبل منهنّ ما بايعنك عليه لأن البيعة عنده من جانبين ولذلك صيغت لها صيغة المفاعلة‏.‏

‏{‏واستغفر لهن الله‏}‏، أي فيما فرط منهنّ في الجاهلية مما خص بالنهي في شروط البيعة وغير ذلك‏.‏ ولذلك حذف المفعول الثاني لفعل ‏{‏استغفر‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

بعد أن استقصت السورة إرشاد المسلمين إلى ما يجب في المعاملة مع المشركين، جاء في خاتمتها الإِرشاد إلى المعاملة مع قوم ليسوا دون المشركين في وجوب الحذر منهم وهم اليهود، فالمراد بهم غير المشركين إذ شُبه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار، فتعين أن هؤلاء غير المشركين لئلا يكون من تشبيه الشيء بنفسه‏.‏

وقد نعتهم الله بأنهم قوم غَضب الله عليهم، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم‏.‏ فتكون هذه الآية مثلَ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزؤاً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء‏}‏ في سورة ‏[‏العقود‏:‏ 57‏]‏‏.‏

ذلك أن يهود خيبر كانوا يومئذٍ بجوار المسلمين من أهل المدينة‏.‏ وذكر الواحدي في أسباب النزول‏}‏‏:‏ أنها نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم، وربما أخبروا اليهودَ بأحوال المسلمين عن غفلة وقِلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم‏.‏

واليَأس‏:‏ عدم توقع الشيء فإذا علق بذاتتٍ كان دالاً على عدم توقع وجودها‏.‏ وإذ قد كان اليهود لا ينكرون الدار الآخرة كان معنى يأسهم من الآخرة محتمِلاً أن يراد به الإِعراضُ عن العمل للآخرة فكأنهم في إهمال الاستعداد لها آيسُون منها، وهذا في معنى قوله تعالى في شأنهم‏:‏ ‏{‏أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وتشبيه إعراضهم هذا بيأس الكفار من أصحاب القبور وجهه شدة الإِعراض وعدم التفكر في الأمر، شُبه إعراضهم عن العمل لنفع الآخرة بيأس الكفار من حياة الموتى والبعثثِ وفيه تشنيع المشبه، ومِن أصحاب القبور‏}‏ على هذا الوجه متعلق ب ‏{‏يئسوا‏}‏‏.‏ و‏{‏الكفار‏}‏‏:‏ المشركون‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏من أصحاب القبور‏}‏ بياناً للكفار، أي الكفار الذين هلكوا ورأوا أن لا حظّ لهم في خير الآخرة فشبه إعراض اليهود عن الآخرة بيأس الكفار من نعيم الآخرة، ووجه الشبه تحقق عدم الانتفاع بالآخرة‏.‏ والمعنى كيأس الكفار الأمواتتِ، أي يأساً من الآخرة‏.‏

والمشبه به معلوم للمسلمين بالاعتقاد فالكلام من تشبيه المحسوس بالمعقول‏.‏

وفي استعارة اليأس للإِعراض ضرب من المشاكلة أيضاً‏.‏

ويحتمل أن يكون يأسهم من الآخرة أطلق على حرمانهم من نعيم الحياة الآخرة‏.‏ فالمعنى‏:‏ قد أيأسناهم من الآخرة على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي‏}‏ في سورة ‏[‏العنكبوت‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ومن المفسرين الأولين من حمل هذه الآية على معنى التأكيد لما في أول السورة من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 1‏]‏ فالقوم الذين غَضَب الله عليهم هم المشركون فإنهم وُصفوا بالعدوِّ لله والعدوُّ مغضوب عليه ونسب هذا إلى ابن عباس‏.‏ وجعل يأسهم من الآخرة هو إنكارهم البعث‏.‏

وجعل تشبيه يأسهم من الآخرة بيأس الكفار من أصحاب القبور أن يأس الكفار الأحياء كيأس الأموات من الكفار، أي كيأس أسلافهم الذين هم في القبور إذ كانوا في مدة حياتهم آيسين من الآخرة فتكون ‏{‏مِن‏}‏ بيانية صفة للكفار، وليست متعلقة بفعل ‏{‏يئس‏}‏ فليس في لفظ ‏{‏الكفار‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار وإلاّ لزم أن يشبه الشيء بنفسه كما قد توهم‏.‏

سورة الصف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بأن تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية‏.‏ وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدُّوا حق تسبيح الله، لأن الله مستحق لأن يوفّى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوّهم‏.‏

وتقدم الكلام على نظير قوله‏:‏ ‏{‏سبح لله‏}‏ إلى ‏{‏الحكيم‏}‏ في أول سورة الحشر وسورة الحديد‏.‏

وفي إجراء وصف ‏{‏العزيز‏}‏ عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوّه فما كان لكم أن تَرهَبُوا أعداءه فتفرّوا منهم عند اللقاء‏.‏

وإجراء صفة ‏{‏الحكيم‏}‏ إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدوّ عبثاً ولا يخليهم يغلبونكم‏.‏ وإن حملت على معنى المُحكِم للأمور فكذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

ناداهم بوصف الإِيمان تعريضاً بأن الإِيمان من شأنه أن يزع المؤمن عن أن يخالف فعلُه قولَه في الوعد بالخير‏.‏

واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبْهم الذي هو مدلول ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه‏.‏

والتقدير‏:‏ تقولون مَا لاَ تفعلون لأي سبب أو لأية علّة‏.‏

وتتعلق اللام بفعل ‏{‏تقولون‏}‏ المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام‏.‏

والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضياً لله تعالى، أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏91‏)‏‏.‏ فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعداً وعَدوه ولم يفوا به‏.‏ ويجوز أن يكون خبراً أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع‏.‏ وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة‏.‏

وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز، وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح‏.‏

وتعقيب الآية بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏ الخ‏.‏ يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله‏.‏ وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في «الكشاف»‏.‏

وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإِيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإِيمان بالقلب ولا بالجسد‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏ بيان لجملة ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ تصريحاً بالمعنى المكنَّى عنه بها‏.‏

وهو خبر عن كون قولهم‏:‏ ‏{‏ما لا تفعلون‏}‏ أمراً كبيراً في جنس المقت‏.‏

والكِبَر‏:‏ مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه‏.‏

و ‏{‏أن تقولوا‏}‏ فاعل ‏{‏كبر‏}‏‏.‏

والمقت‏:‏ البغض الشديد‏.‏ وهو هنا بمعنى اسم المفعول‏.‏

وانتصب ‏{‏مقتاً‏}‏ على التمييز لِجهة الكبر‏.‏ وهو تمييز نسبة‏.‏

والتقدير‏:‏ كبر ممقوتاً قَولُكم ما لا تفعلونه‏.‏

ونُظِم هذا الكلام بطريقة الإِجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمِظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أُحد‏.‏ ففيه وعيد على تجدد مثله، وزيد المقصود اهتماماً بأن وصف المقت بأنه عند الله، أي مقتٌ لا تسامح فيه‏.‏

وعدل عن جعل فاعل ‏{‏كبر‏}‏ ضمير القول بأن يقتصر على ‏{‏كبر مقتاً عند الله‏}‏ أو يقال‏:‏ كبر ذلك مقتاً، لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه، ولإِفادة التأكيد‏.‏

و ‏{‏مَا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما لا تفعلون‏}‏ في الموضعين موصولة، وهي بمعنى لام العهد، أي الفعل الذي وَعدتم أن تفعلوه وهو أحبّ الأعمال إلى الله أو الجهادُ‏.‏ 4 فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصودِ منه القُربة فيجب الوفاء به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

هذا جواب على تمنيهم معرفةَ أحب الأعمال إلى الله كما في حديث عبد الله بن سَلام عند الترمذي المتقدم وما قبله توطئة له على أسلوب الخطب ومقدماتها‏.‏

والصف‏:‏ عَدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن، فيطلق على صف المصلين، وصفِّ الملائكة، وصف الجيش في ميدان القتال بالجيش إذا حضر القتال كان صفّاً من رَجَّالة أو فرسان ثم يَقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات‏.‏

فالصفّ هنا‏:‏ كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبّر‏.‏

وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق وكرّ وفّر‏.‏ وانتصب ‏{‏صفاً‏}‏ على الحال بتأويل‏:‏ صافّين، أو مصفوفين‏.‏

والمرصوص‏:‏ المتلاصق بعضه ببعض‏.‏ والتشبيه في الثبات وعدم الانفلات وهو الذي اقتضاه التوبيخ السابق في قوله‏:‏ ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة‏.‏ فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافاً ابتدائياً انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك، فيكون الكلام موجهاً إلى المنافقين، فقد وسموا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول‏.‏

والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض‏.‏ وهو المسمّى بعطف قصة على قصة‏.‏

ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلاً للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم ويسوؤوه من الخروج عن جادة الكمال الديني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإِتيان بأحبّ الأعمال إلى الله تعالى‏.‏ وأشفقهم من أن يكون ذلك سبباً للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لمَّا آذوه‏.‏

وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه‏:‏ عدم توخي طاعته ورضاه، فيكون ذلك مشيراً إلى ما حكاه الله عنه من قوله‏:‏ ‏{‏يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عَقِبَه ‏{‏قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ ناظراً إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله‏:‏ ‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 25‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏‏.‏ ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيراً من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أُحُد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم‏.‏

وقد تشابهت القصتان في أن القوم فرّوا يوم أُحُد كما فرّ قوم موسى يوم أريحا، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا مكانهم «ولو تخطَّفَنا الطير» وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدوّ من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلباً للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أُحُد‏.‏

والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ على النهي الذي في قوله‏:‏ ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏ الآية‏.‏

ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ متعلقة بفعل محذوف تقديره‏:‏ اذْكُر، وله نظائر كثيرة في القرآن، أي اذكر لهم أيضاً وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه‏.‏

وابتداء كلام موسى عليه السلام ب ‏{‏يا قوم‏}‏ تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بَلْهَ أن لا يؤذوه‏.‏ ففي النداء بوصف ‏{‏قوم‏}‏ تمهيد للإِنكار في قوله‏:‏ ‏{‏لم تؤذونني‏}‏‏.‏

والاستفهام للإِنكار، أي إنكار أن يكون للإِذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لم تقولون ما لا تفعلون‏.‏

وقد جاءت جملة الحال من قوله‏:‏ وقد تعلمون أني رسول الله‏}‏ مصادفة المحلّ من الترقّي في الإِنكار‏.‏

و ‏{‏قد‏}‏ لتحقيق معنى الحالية، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته، وكما أكد علمهم ب ‏{‏قَد‏}‏ أكد حصول المعلوم ب ‏(‏أنّ‏)‏ المفتوحة، فحصل تأكيدان للرسالة‏.‏ والمعنى‏:‏ فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم‏.‏

والإِتيان بعد ‏{‏قد‏}‏ بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدّد بتجدد الآيات والوحي، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دلّ على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى‏.‏ ولعله قد طرأ عليه ما يبطله، وهذا كالمضارع في قوله‏:‏ ‏{‏قد يعلم الله المعوقين منكم‏}‏ في سورة ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والزيغ‏:‏ الميل عن الحق، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغاً، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال‏.‏

وجملة والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ تذييل، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوْه من أهل ذلك العموم‏.‏

وذُكر وصف ‏{‏الفاسقين‏}‏ جارياً على لفظ ‏{‏القوم‏}‏ للإِيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقوّمات قوميتهم‏.‏ كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏

فالمعنى‏:‏ الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ فعلى الوجه الأول في موقع التي قبلها فموقع هذه مساوٍ له‏.‏

وأما على الوجه الثاني في الآية السابقة فإن هذه مسوقة مساق التتميم لقصة موسى بذكر مثال آخر لقوم حادُوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم من غير إفادة تحذير للمخاطبين من المسلمين، وللتخلص إلى ذكر أخبار عيسى بالرسول الذي يجيء بعده‏.‏

ونادى عيسى قومه بعنوان ‏{‏بني إسرائيل‏}‏ دون ‏{‏يا قوم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏ لأن بني إسرائيل بعد موسى اشتهروا بعنوان «بني إسرائيل» ولم يطلق عليهم عنوان‏:‏ قوم موسى، إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوماً بسببه وشريعته‏.‏

فأما عيسى فإنما كان مرسلاً بتأييد شريعة موسى، والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها، ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدّقوه فلم يكونوا قوماً له خالصين‏.‏

وتقدم القول في معنى ‏{‏مصدقاً لما بين يدي من التوراة‏}‏ في أوائل سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏ وفي أثناء سورة العقود‏.‏

والمقصود من تنبيههم على هذا التصديق حين ابتدأهم بالدعوة تقريب إجابتهم واستنزال طائرهم لشدة تمسكهم بالتوراة واعتقادهم أن أحكامها لا تقبل النسخ، وأنها دائمة‏.‏ ولذلك لما ابتدأهم بهذه الدعوة لم يزد عليها ما حكي عنه في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم‏}‏، فيحمل ما هنالك على أنه خطاب واقع بعد أول الدعوة فإن الله لم يوح إليه أوّل مرّة بنسخ بعض أحكام التوراة ثم أوحاه إليه بعد ذلك‏.‏ فحينئذٍ أخبرهم بما أوحي إليه‏.‏

وكذلك شأن التشريع أن يُلقَى إلى الأمة تدريجاً كما في حديث عائشة في صحيح البخاري‏}‏ أنها قالت‏:‏ «إنما أُنزل أوّل ما أُنزل منه ‏(‏أي القرآن‏)‏ سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإِسلام نزل الحلال والحرام، ولو أنزل أولَ شيء‏:‏ لا تشربوا الخمر، لقالوا‏:‏ لا نترك الخمر أبداً، ولو نزل‏:‏ لا تزنوا‏:‏ لقالوا‏:‏ لا ندع الزنا أبداً‏.‏ لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجاريةٌ ألعَب ‏{‏بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 46‏]‏، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده» اه‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يدي من التوراة‏}‏ في كلتا الآيتين هو التصديق بمعنى التقرير والأعمال على وجه الجملة، أي أعمال مجموعها وجمهرة أحكامها ولا ينافي ذلك أنه قد تغير بعض أحكامها بوحي من الله في أحوال قليلة‏.‏

والتبشير‏:‏ الإِخبار بحادث يسُرّ، وأطلق هنا على الإِخبار بأمر عظيم النفع لهم لأنه يلزمه السرور الحق فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة‏.‏

ووجه إيثار هذا اللفظ الإِشارة إلى ما وقع في الإِنجيل من وصف رسالة الرسول الموعود به بأنها بشارة الملكوت‏.‏

وإنما أخبرهم بمجيء رسول من بعده لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسول من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم وهذا الانتظار ديدنهم، وهم موعودون لهذا المخلّص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى‏.‏ فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم، وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناء بهذه الوصية‏.‏

وفي الابتداء بها تنبيه على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر وأن المنتظر رسول يأتي من بعده وهو محمد صلى الله عليه وسلم

ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه فيكون انطباقها فاتحة لإِقبالهم على تلقّي دعوته، وإنما يعرفها حقّ معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وقد وصف الله بعض صفات هذا الرسول لموسى عليه السلام في قوله تعالى حكاية عن إجابته دعاء موسى ‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون إلى قوله‏:‏ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

فلما أراد الله تعالى إعداد البشر لقبول رسالة هذا الرسول العظيم الموعود به صلى الله عليه وسلم استودعهم أشراطه وعلاماته على لسان كل رسول أرسله إلى الناس‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81- 82‏]‏ أي أأخذتم إصري من أُممكم على الإِيمان بالرسول الذي يجيء مصدقاً للرسل‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فاشهدوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، أي على أُممكم وسيجيء من حكاية كلام عيسى في الإِنجيل ما يشرح هذه الشهادة‏.‏

وقال تعالى في خصوص ما لَقّنه إبراهيمَ عليه السلام ‏{‏ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏ الآية‏.‏

وأوصى به عيسى عليه السلام في هذه الآية وصية جامعة لما تقدمها من وصايا الأنبياء وأجملها إجمالاً على طريق الرمز‏.‏ وهو أسلوب من أساليب أهل الحكمة والرسالة في غير بيان الشريعة، قال السّهروردي‏:‏ في تلك حكمة الإِشراق «وكلمات الأوَّلين مرموزة» فقال قطب الدين الشيرازي في «شرحه»‏:‏ «كانوا يرمزون في كلامهم إما تشحيذاً للخاطر باستكداد الفكر أو تشبهاً بالباري تعالى وأصحاببِ النواميس فيما أتوا به من الكتب المنزلة المرموزة لتكون أقرب إلى فهم الجمهور فينتفع الخواصّ بباطنها والعوام بظاهرها‏.‏

ا ه»، أي ليتوسمها أهل العلم من أهل الكتاب فيتحصل لهم من مجموع تفصيلها شمائل الرسول الموعود به ولا يلتبس عليهم بغيره ممن يدّعي ذلك كذباً‏.‏ أو يدّعيه له طائفة من الناس كذباً أو اشتباهاً‏.‏

ولا يحمل قوله‏:‏ ‏{‏اسمه أحمد‏}‏ على ما يتبادر من لفظ اسم من أنه العلَم المجهول للدلالة على ذات معيَّنة لتميزه من بين من لا يشاركها في ذلك الاسم لأن هذا الحمل يمنع منه وأنه ليس بمطابق للواقع لأن الرسول الموعود به لم يدعه الناسُ أحمد فلم يكن أحد يدعو النبي محمداً صلى الله عليه وسلم باسم أحمد لا قبل نبوته ولا بعدها ولا يعْرف ذلك‏.‏

وأما ما وقع في «الموطأ» و«الصحيحين» عن محمّد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لي خمسة أسماء‏:‏ أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» فتأويله أنه أطلق الأسماء على ما يشمل الاسم العَلَم والصفة الخاصة به على طريقة التغليب‏.‏ وقد رويت له أسماء غيرها استقصاها أبو بكر ابن العربي في «العارضة» و«القَبس»‏.‏

فالذي نُوقِن به أن محمل قوله‏:‏ ‏{‏اسمه أحمد‏}‏ يجري على جميع ما تحمله جُزْءاً هذه الجملة من المعاني‏.‏

فأما لفظ «اسم» فأشهر استعماله في كلام العرب ثلاثة استعمالات‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون بمعنى المسمّى‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الاسم هو المسمّى‏.‏ ونَسب ثعلب إلى سيبويه أن الاسم غير المسمّى ‏(‏أي إذا أطلق لفظ اسم في الكلام فالمعنى به مسمّى ذلك الاسم‏)‏ لكن جَزم ابن السيد البَطَلْيَوسي في كتابه الذي جعله في معاني الاسم هَل هو عين المسمى، أنه وقع في بعض مواضع من كتاب سيبويه أن الاسم هو المسمّى، ووقع في بعضها أنه غير المسمّى، فحمَله ابن السيد البطليوسي على أنهما إطلاقان، وليس ذلك باختلاف في كلام سيبويه، وتوقف أبو العباس ثعلب في ذلك فقال‏:‏ ليس لي فيه قول‏.‏ ولما في هذا الاستعمال من الاحتمال بطل الاستدلال به‏.‏

الاستعمال الثاني‏:‏ أن يكون الاسم بمعنى شهرة في الخير وأنشد ثعلب‏:‏

لأعظمها قدراً وأكرمِها أباً *** وأحسنِها وجْهاً وأعلَنها سُمَى

سُمىً لغة في اسم‏.‏

الاستعمال الثالث‏:‏ أن يطلق على لفظ جُعل دالاً على ذات لتميَّز من كثير من أمثالها، وهذا هو العَلَم‏.‏

ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح كما في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير، فنحمل الاسم في قوله‏:‏ ‏{‏اسمه أحمد‏}‏ على ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماه أحمد، وِذكْره أحْمد، وعَلَمه أحمَد، ولنحمل لفظ أحمد على ما لا يأباه واحد من استعمالاتتِ اسم الثلاثةِ إذا قُرن به وهو أن أَحْمد اسم تفضيل يجوز أن يكون مسلوب المفاضلة معنياً به القوةُ فيم هو مشتق منه، أي الحمدِ وهو الثناء، فيكون أحمد هنا مستعملاً في قوةِ مفعولية الحَمد، أي حَمْد الناس إياه، وهذا مثل قولهم‏.‏

«العَود أحمد»، أي محمود كثيراً‏.‏ فالوصف ب ‏{‏أحمد‏}‏ بالنسبة للمعنى الأول في اسم أن مسمّى هذا الرسول ونفسه موصوفة بأقوى ما يحمد عليه محمود فيشمل ذلك جميع صفات الكمال النفسانية والخُلقية والخَلقية والنسبية والقومية وغير ذلك مما هو معدود من الكمالات الذاتية والغرضية‏.‏

ويصح اعتبار ‏{‏أحمد‏}‏ تفضيلاً حقيقياً في كلام عيسى عليه السّلام، أي مسماه أحمد مني، أي أفضل، أي في رسالته وشريعته‏.‏ وعبارات الإِنجيل تشعر بهذا التفضيل، ففي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر «وأنا أطلب من الأب ‏(‏أي من ربنا‏)‏ فيعطيكم ‏(‏فارقليط‏)‏ آخر ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه‏.‏ ثم قال‏:‏ وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الأب ‏(‏الله‏)‏ باسمي فهو يعلِّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم»، أي في جملة ما يعلِّمكم أن يذكركم بكل ما قلته لكم‏.‏ وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعة المعبر عنها بقول الإِنجيل «ليثبت معكم إلى الأبد» وبفضيلة عموم شرعه للأحكام المعبر عنه بقوله‏:‏ «يعلمكم كل شيء»‏.‏

والوصف ب ‏{‏أحمد‏}‏ على المعنى الثاني في الاسم‏.‏ أن سُمعتَه وذِكره في جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشدُّ ذكرٍ محمود وسمعةٍ محمودة‏.‏

وهذا معنى قوله في الحديث «أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة» وأن الله يبعثه مقاماً محموداً‏.‏

ووصف ‏{‏أحمد‏}‏ بالنسبة إلى المعنى الثالث في الاسم رمز إلى أنه اسمه العَلَم يكون بمعنى‏:‏ أحمد، فإن لفظ محمَّد اسم مفعول من حَمَّد المضاعف الدال على كثرة حَمد الحامدين إياه كما قالوا‏:‏ فلان ممَدَّح، إذا تكرر مدحُه من مادحين كثيرين‏.‏

فاسم «محمّد» يفيد معنى‏:‏ المحمود حمداً كثيراً ورمز إليه بأحمد‏.‏

وهذه الكلمة الجامعة التي أوحى الله بها إلى عيسى عليه السّلام أراد الله بها أن تكون شعاراً لجماع صفات الرسول الموعود به صلى الله عليه وسلم صيغت بأقصى صيغة تدل على ذلك إجمالاً بحسب ما تسمح اللغة بجمعه من معاني‏.‏ ووُكل تفصيلها إلى ما يظهر من شمائله قبل بعثته وبعدها ليتوسمها المتوسمون ويتدبر مطاويها الراسخون عند المشاهدة والتجربة‏.‏

جاء في إنجيل متَّى في الإِصحاح الرابع والعشرين قول عيسى «ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيراً ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يكون المنتهى»، ومعنى يكرز يدعو وينبئ، ومعنى يصير إلى المنتهى يتأخر إلى قرب الساعة‏.‏

وفي إنجيل يوحنّا في الإِصحاح الرابع عشر «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر يثبت معكم إلى الأبد»‏.‏ و‏(‏فارقليط‏)‏ كلمة رومية، أي بوانية تطلق بمعنى المُدافع أو المسلي، أي الذي يأتي بما يدفع الأحزان والمصائب، أي يأتي رحمة، أي رسول مبشر، وكلمة آخر صريحة في أنه رسول مثل عيسى‏.‏

وفي الإصحاح الرابع عشر «والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل الذي أرسلني‏.‏ وبهذا كَلّمتُكم وأنا عندكم ‏(‏أي مدة وجودي بينكم‏)‏، وأما ‏(‏الفارقليط‏)‏ الروح القدسي الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته» ‏(‏ومعنى «باسمي» أي بصفة الرسالة‏)‏ لا أتكلم معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فِيَّ شيء ولكن ليفهم العالم أني أحبّ الأب وكما أوصاني الأبُ أفعل»‏.‏

وفي الإِصحاح الخامس عشر منه «ومتى جاء الفارقليط الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روحُ الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي»‏.‏

وفي هذه الأخبار إثبات أن هذا الرسول المبشر به تعمّ رسالته جميع الأمم في جميع الأرض، وأنه الخاتم، وأن لشريعته مُلكاً لقول إنجيل متَّى «هو يكرز ببشارة الملكوت» والملكوت هو الملك، وأن تعاليمه تتعلق بجميع الأشياء العارضة للناس، أي شريعته تتعلق أحكامها بجميع الأحوال البشرية، وجميعها مما تشمله الكلمة التي جاءت على لسان عيسى عليه السلام وهي كلمة ‏{‏اسمه أحمد‏}‏ فكانت من الرموز الإِلهية ولكونها مرادة لذلك ذكرها الله تعالى في القرآن تذكيراً وإعلاناً‏.‏

وذِكر القرآن تبشيرَ عيسى بمحمدٍ عليهما الصلاة والسّلام إدماج في خلال المقصود الذي هو تنظير ما أوذي به موسى من قومه وما أوذي به عيسى من قومه إدماجاً يؤيد به النبي صلى الله عليه وسلم ويثبّت فؤاده ويزيده تسلية‏.‏ وفيها تخلص إلى أن ما لقيه من قومه نظيرَ ما لقيه عيسى من بني إسرائيل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين‏}‏ هو مناط الأذى‏.‏

فإن المتبادر أن يعود ضمير الرفع في قوله‏:‏ ‏{‏جاءهم‏}‏ إلى عيسى، وأن يعود ضمير النصب إلى الذين خاطبهم عيسى‏.‏ والتقدير‏:‏ فكذبوه، فلما جاءهم بالمعجزات قالوا هذا سحر أو هُو ساحر‏.‏

ويحتمل أن يكون ضمير الرفع عائداً إلى رسول يأتي من بعدي‏.‏ وضمير النصب عائداً إلى لفظ بني إسرائيل، أي بني إسرائيل غير الذين دعاهم عيسى عليه السلام من باب‏:‏ عندي درهم ونصفه، أي نصف ما يسمّى بدرهم، أي فلما جاءهم الرسول الذي دعاه عيسى باسم أحمد بالبينات، أي دلائل انطباق الصفات الموعود بها قالوا هذا سحر أو هذا ساحر مبين فيكون هذا التركيب مبين من قبيل الكلام الموجه‏.‏ وحصل أذاهم بهذا القول لكلا الرسولين‏.‏

فالجملة على هذا الاحتمال تُحمل على أنها اعتراض بين المتعاطفات وممهدة للتخلص إلى مذمة المشركين وغيرهم ممن لم يقبل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء من قوله‏:‏ ‏{‏بعديَ‏}‏‏.‏ وقرأه الباقون بسكونها‏.‏ قال في «الكشاف»‏:‏ واختار الخليل وسيبويه الفتح‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏هذا سحر‏}‏ بكسر السين‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف ‏{‏هذا ساحر‏}‏ فعلى الأولى الإِشارة للبنات، وعلى الثانية الإِشارة إلى عيسى أو إلى الرسول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة دعوة عيسى عليه السّلام وكان جواب الذين دعاهم إلى الإِسلام من أهل الكتابين والمشركين مماثلاً لجواب الذين دعاهم عليه السّلام‏.‏ فلما أدمج في حكاية دعوة عيسى بشارته برسول يأتي من بعده ناسب أن ينقل الكلام إلى ما قابل به قوم الرسول الموعود دعوة رسولهم فلذلك ذكر في دعوة هذا الرسول دين الإِسلام فوصفوا بأنهم أظلم الناس تشنيعاً لحالهم‏.‏

فالمراد من هذا الاستفهام هم الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك عطف هذا الكلام بالوَاو ودون الفاء لأنه ليس مفرعاً على دعوة عيسى عليه السلام‏.‏

وقد شمل هذا التشنيع جميع الذين كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين والمشركين‏.‏

والمقصود الأول هم أهل الكتاب، وسيأتي عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ولو كره المشركون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 8، 9‏]‏ فهما فريقان‏.‏

والاستفهام ب ‏{‏من أظلم‏}‏ إنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء فالمكذبون مِن قبلهم، إما أن يكونوا أظلم منهم وإمّا أن يساووهم على كل حال، فالكلام مبالغة‏.‏

وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بنسْبِته إلى ما ليس فيه إذ قالوا‏:‏ هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة، فيعرضوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر الصحيح حتى يعلموا صدقه، وظلموا ربهم إذ نسبوا ما جاءهم من هديه وحجج رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ليس منه فسموا الآيات والحجج سحراً، وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإِنجيل مُثبتة صدق رسول الإِسلام صلى الله عليه وسلم وكمل لهم هذا الظلم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏، فيعلم أنه ظلم مستمر‏.‏

وقد كان لجملة الحال ‏{‏وهو يدعى إلى الإسلام‏}‏ موقع متين هنا، أي فعلوا ذلك في حين أن الرسول يدعوهم إلى ما فيه خيرهم فعَاضوا الشكر بالكفر‏.‏

وإنما جُعل افتراؤهم الكذب على الله لأنهم كذبوا رسولاً يخبرهم أنه مرسل من الله فكانت حُرمة هذه النسبة تقتضي أن يُقبلوا على التأمل والتدبر فيما دعاهم إليه ليصلوا إلى التصديق، فلما بادروها بالإِعراض وانتحلوا للداعي صفات النقص كانوا قد نسبوا ذلك إلى الله دون توقير‏.‏

فأما أهل الكتاب فجحدوا الصفات الموصوفة في كتابهم كما قال تعالى فيهم ‏{‏ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 140‏]‏‏.‏ وذلك افتراء‏.‏

وأما المشركون فإنهم افتروا على الله إذ قالوا‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏

واسم ‏{‏الإسلام‏}‏ عَلم للدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جامع لما فيه خير الدنيا والآخرة فكان ذكر هذا الاسم في الجملة الحالية زيادة في تشنيع حال الذين أعرضوا عنه، أي وهو يُدعى إلى ما فيه خيره وبذلك حق عليه وصف ‏{‏أظلم‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تأييس لهم من الإِقلاع عن هذا الظلم، أي أن الذين بلغوا هذا المبلغ من الظلم لا طمع في صلاحهم لتمكُن الكفرِ منهم حتى خالط سجاياهم وتقوّم مع قوميتهم، ولذلك أقحم لفظ ‏{‏القوم‏}‏ للدلالة على أن الظلم بلغ حدَّ أن صار من مقومات قَوميتهم كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏‏.‏ وتقدم غير مرة‏.‏

وهذا يعم المخبر عنهم وأمثالهم الذين افتروا على عيسى، ففيها معنى التذييل‏.‏

وأسند نفي هديهم إلى الله تعالى لأن سبب انتفاء هذا الهدي عنهم أثر من آثار تكوين عقولهم ومداركهم على المكابرة بأسباب التكوين التي أودعها الله في نظام تكوّن الكائنات وتطورها من ارتباط المسببات بأسبابها مع التنبيه على أن الله لا يتدارك أكثرهم بعنايته، فمُغَيِّر فيهم بعض القوى المانعة لهم من الهدى غضباً عليهم إذ لم يخلفوا بدعوة تستحق التبصر بسبب نسبتها إلى جانب الله تعالى حتى يتميز لهم الصدق من الكذب والحق من الباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

استئناف بياني ناشئ عن الإِخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يُدعون إلا الإِسلام لأنه يثير سؤال سائل عما دعاهم إلى هذا الافتراء‏.‏ فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإِسلام عن الناس ويعوقوا انتشاره ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتّلصّص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء‏.‏

فلاحت له ذُبالة مصباح تضيء للناس، فكرهوا ذلك وخشُوا أن يُشعَّ نوره على الناس فتفتضح ترهاتهم، فعمدوا إلى إطفائه بالنفخ عليه فلم ينطَفِئ، فالكلام تمثيل دال على حالة الممثل لهم‏.‏ والتقدير‏:‏ يريدون عوق ظهور الإِسلام كمثل قوم يريدون إطفاء النور، فهذا تشبيه الهيئة بالهيئة تشبيه المعقول بالمحسوس‏.‏

ثم إن ما تضمنه من المحاسن أنه قابِل لتفرقة التشبيه على أجزاء الهيئة، فاليَهود في حال إرادتهم عوق الإِسلام عن الظهور مشبَّهون بقوم يريدون إطفاء نور الإِسلام فشبه بمصباح‏.‏ والمشركون مثلُهم وقد مُثّل حال أهل الكتاب بنظير هذا التمثيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود عزير ابن الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره‏}‏ الآية في سورة ‏[‏براءة‏:‏ 30- 32‏]‏، ووصفهم القرآن بأنه سحر ونحو ذلك من تمويهاتهم، فشبه بنفخ النافخين على المصباح فكان لذكر بأفواههم‏}‏ وقع عظيم في هذا التمثيل لأن الإِطفاء قد يكون بغير الأفواه مثل المروحة والكِير، وهم أرادوا إبطال آيات القرآن بزعم أنها من أقوال السحر‏.‏

وإضافة نور إلى اسم الجلالة إضافة تشريف، أي نوراً أوقده الله، أي أوجده وقدَّره فما ظنكم بكماله‏.‏

واللام من قوله‏:‏ ‏{‏ليطفئوا‏}‏ تسمّى اللام الزائدة، وتفيد التأكيد‏.‏ وأصلها لام التعليل، ذُكِرت علةُ فعل الإِرادة عوضاً عن مفعوله بتنزيل المفعول منزلة العلة‏.‏

والتقدير‏:‏ يريدون إطفاء نور الله ليطفئوا‏.‏ ويكثر وقوع هذه اللام بعد مادة الإِرادة ومادة الأمر‏.‏ وقد سماها بعض أهل العربية‏:‏ لام ‏(‏أَنْ‏)‏ لأن معنى ‏(‏أَنْ‏)‏ المصدرية ملازم لها‏.‏ وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله ليبين لكم‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فلذلك قيل‏:‏ إن هذه اللام بعد فعل الإِرادة مزيدة للتأكيد‏.‏

وجملة والله متم نوره‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏يريدون‏}‏ وهي إخبار بأنهم لا يبلغون مرادهم وأن هذا الدِّين سيتم، أي يبلغ تمام الانتشار‏.‏ وفي الحديث «والله لَيِتَمَّن هذا الأمرُ حتى يسيرَ الراكبُ من صنَعاء إلى حضرَموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»‏.‏

والجملة الاسمية تفيد ثبوت هذا الإِتمام‏.‏ والتمام‏:‏ هو حصول جميع ما للشيء من كيفية أو كمية، فتمام النور‏:‏ حصول أقوى شعاعه وإتمامه إمداد آلته بما يقوى شعاعه كزيادة الزيت في المصباح وإزالة ما يغشاه‏.‏

وجملة ‏{‏ولو كره الكافرون‏}‏ حالية و‏{‏لو‏}‏ وصلية، وهي تدل على أن مضمون شرطها أجدر ما يُظَنُّ أن لا يحصل عند حصوله مضمونُ الجوَاب‏.‏

ولذلك يقدِّر المعربون قبله ما يدلّ على تقدير حصول ضد الشرط‏.‏ فيقولون هذا إذا لم يكن كذا بل وإن كان كذا، وهو تقدير معنى لا تقدير حذف لأن مثل ذلك المحذوف لا يطرد في كل موقع فإنه لا يستقيم في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏، إذ لا يقال‏:‏ هذا إذا كنّا كاذبين، بل ولو كنا صادقين‏.‏ وكذلك ما في هذه الآية لأن المعنى‏:‏ والله متمّ نورَه على فرض كراهة الكافرين، ولما كانت كراهة الكافرين إتمام هذا النور محققةً كان سياقها في صورة الأمر المفروض تهكماً‏.‏ وتقدم استعمال ‏(‏لو‏)‏ هذه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يُظنّ انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء وصرفهم عنه بوجوه المكر والخديعة والكيد والإِضرار‏.‏

وشمل لفظ الكافرون‏}‏ جميع الكافرين بالإِسلام من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم‏.‏

ولكن غلب اصطلاح القرآن على تخصيص وصف الكافرين بأهل الكتاب ومقابلتهم بالمشركين أو الظالمين ويتجه على هذا أن يكون الاهتمام بذكر هؤلاء بعد ‏{‏لو‏}‏ الوصلية لأن المقام لإِبطال مرادهم إطفاء نور الله فإتمام الله نوره إبطال لمرادهم إطفاءَه‏.‏ وسيرد بعد هذا ما يبطل مراد غيرهم من المعاندين وهم المشركون‏.‏

وقرأ نافع وأبو عَمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ‏{‏متمٌ نورَه‏}‏ بتنوين ‏{‏متمٌ‏}‏ ونصب ‏{‏نورَه‏}‏‏.‏ وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف بدون تنوين وجَرّ ‏{‏نورِه‏}‏ على إضافة اسم الفاعل على مفعوله وكلاهما فصيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

هذا زيادة تحدِّ للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏والله متم نوره ولو كره الكافرون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله‏.‏ فقد أفاد تعريفُ الجزأيْن في قوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أرسل رسوله‏}‏ قصراً إضافياً لقلببِ زَعْم الكافرين أن محمّداً صلى الله عليه وسلم أتى من قِبَللِ نفسه، أي الله لا غيره أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق‏.‏ وأن شيئاً تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله‏.‏

وتعليل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ليظهره على الدين كله‏}‏ إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السّلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زماناً طويلاً حتى تنصَّر قسطنطينُ سلطانُ الروم، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإِسلام على جميع الأديان عُلم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتمّ المراد‏.‏

والإِظهار‏:‏ النصر ويطلق على التفضيل والإِعلاء المعنوي‏.‏

والتعريف في قوله‏:‏ ‏{‏على الدين‏}‏ تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام‏.‏

ويظهر أن لفظ ‏{‏الدين‏}‏ مستعمل في كلا معنييه‏:‏ المعنى الحقيقي وهو الشريعة‏.‏ والمعنى المجازي وهو أهل الدّين كما تقول‏:‏ دخلت قرية كذا وأكرمتني، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعاً وآداباً، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلاً دون جيل‏.‏

وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقُّونهم في مدة ظهوره حتى يتمّ أمره ويستغني عمن ينصره‏.‏

وقد تمّ وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمماً كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم، فأمّا الدين فلم يزل عالياً مشهوداً له من علماء الأمم المنصفين بأنه أفضل دين للبشر‏.‏

وخص المشركون بالذكر هنا إتماماً للذين يكرهون إتمام هذا النور، وظهور هذا الدين على جميع الأديان‏.‏ ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الدين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2 4‏]‏‏.‏ فبعد أن ضربت لهم الأمثال، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 2‏]‏، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذْ قلتم لو نعلم أيَّ الأعمال أحبّ إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أُسلوب الخطابة‏.‏

والظاهر أن الضمير المستتر في ‏{‏أدلكم‏}‏ عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين‏.‏ ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والاستفهام مستعمل في العَرض مجازاً لأن العارض قد يسأل المعروضَ عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال‏:‏ هل لك في كذا‏؟‏ أو هل لك إلى كذا‏؟‏

والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة‏.‏ وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكّاكي في «المفتاح»، وهي غير منحصرة فيما ذكره‏.‏

وجيء بفعل ‏{‏أدلكم‏}‏ لإِفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدى إليها بسهولة‏.‏

وأطلق على العمل الصالح لفظُ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارةَ في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏

ووصف التجارة بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإِنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح‏.‏

وجملة تؤمنون بالله ورسوله‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويقُ الذي سبقها مما يثير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة‏.‏

وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فِعْل ‏{‏تؤمنون بالله‏}‏ مع ‏{‏وتجاهدون‏}‏ مراد به تجمعون بين الإِيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويهاً بشأن الجهاد‏.‏ وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإِيمان وتجديده في كل آن، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإِيمان وشؤونه‏.‏

وأما ‏{‏وتجاهدون‏}‏ فإنه لإِرادة تجدّد الجهاد إذا استُنفِروا إليه‏.‏

ومجيء ‏{‏يغفر‏}‏ مجْزوماً تنبيه على أن ‏{‏تؤمنون‏}‏ ‏{‏وتجاهدون‏}‏ وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمرُ لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر‏.‏ قاله المبرد والزمخشري‏.‏

وقال الفراء‏:‏ جزم ‏{‏يغفرْ‏}‏ لأنه جواب ‏{‏هل أدلكم‏}‏، أي لأن متعلق ‏{‏أدلكم‏}‏ هو التجارة المفسرة بالإِيمان والجهاد، فكأنه قيل‏:‏ هل تتَّجرون بالإِيمان والجهاد يَغفرْ لكم ذنوبكم‏.‏

وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإِيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وامتثله‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تنجيكم‏}‏ بسكون النون وتخفيف الجيم‏.‏ وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم، يقال‏:‏ أنجاه ونَجّاه‏.‏

والإِشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى الإِيمان والجهاد بتأويل المذكور‏:‏ خير‏.‏

و ‏{‏خير‏}‏ هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله‏:‏ أخير ووزنه‏:‏ أَفعل، بل هو اسم لضد الشر، ووزنه‏:‏ فَعْل‏.‏

وجمع قوله‏:‏ ‏{‏خير‏}‏ ما هو خيرُ الدنيا وخيرُ الآخرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ تعريض لهم بالعتاب على تولّيهم يوم أُحُد بعد أن قالوا‏:‏ لو نعلم أيَّ الأعمال أحب إلى الله لَعَمِلْنَاه، فندبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أُحُد، كما تقدم في أول السورة، فنزلوا منزلة من يُشَك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجَب العلم‏.‏

والمساكن الطيبة‏:‏ هي القصور التي في الجنة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعل لك قصوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وإنما خُصّت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم، فوعدوا على تلك المفارقة الموقتة بمساكن أبدية‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 24‏]‏ الآية‏.‏